قراءة في قصائد الشاعرة د. أم الخير الباروني
بقلم الشاعر: خالد درويش
الشاعرة أم الخير الباروني كان من الصواب أن نطلق عليها صاحبة الصوت القادم من بعيد وعلى مهل ،فهي التي ظهرت منذ أوائل التسعينيات كنص أنثوي متميز بين كوكبة من الشاعرات الشابات لكنها لم تكن في عجلة من أمرها سواء على مستوى المشاركة في التظاهرات الثقافية التي تقام بين الفينة والأخرى في مدن وقرى ليبيا أو حتى على مستوى النشر أو إصدار ولو ديوان شعري يجمع شتات ما ألقته أو نشرته عبر الدوريات المحلية التي كانت في حاجة إلى صوت متميز وخصوصا لمثل نصوص هذه الشاعرة ، لكن كل هذه الأشياء أو العوامل لم تؤثر في حركة التصاعد لوتيرة النص عند هذه الشاعرة التي استطاعت بدأب وصبر أن ترسم ملامح نصها بشكله المتميز على خارطة القصيدة الشعرية النسائية في ليبيا حتى إنك لا تكاد تقرأ المقطع الأول من النص لتعرف بأنك تقرأ نصا لشاعرة متمهلة وهادئة بإيقاع مختلف في كل شئ كهدوء الشاعرة أم الخير الباروني .. . كما أنها من الشواعر اللاتي كان لهن أثراً كبيراً في نصوصها وليس العكس كما يحدث عند البعض وهو أمر يحسب لصالحها على أية حال، وقد يطول الحديث حول هذه الإشكالية فيما يخص أثر الشاعر على النص أو أثر النص على الشاعر حيث تختلف نسبة التقدير من شاعر إلى آخر ومن مسألة لأخرى …
إلا أننا ونحن بصدد الحديث عن صوت شعري ليبي أنثوي ومختلف فلابد لنا من الوقوف على مقاطع نص تسأولات الذي تقول فيه أم الخير الباروني :
أتساءل عن لون العتمة
عن لون الأمل المتعلق بأذيال الظلمة
عن لون العشب النامي
بعد أن تهطل سحب الأوهام
بعد أن تشرق شمس الأحلام
أتساءل عن لون الأحلام
عن لون ضفاف ذاكرتي
ومرافئ شظآن النسيان ..
وهنا يعترينا إحساس غامض ومهم ليس خوفا من تشظى الأسئلة وروحها الانشطارية التي قد تصيبنا بحالة إرباك وإنما من جرأة هذا النوع من الأسئلة التي تضمر غرابتها من خلال انتشارها الأفقي إلى أماكن وفضاءات قد يصعب الوصول إليها وبالتالي يصعب فك طلاسمها ،ذلك عندما تحدد ألوان الأشياء وربما أشكالها وأحجامها كالحلم والأمل اللذين لا تنطبق عليهما أي من هذه الصفات والألوان ، ثم إن الوهم الذي لم يأت عابرا هذه المرة وإنما بدأ يهطل مدرارا لولا بصيص من الأمل الذي أطل من بعيد وهي الحالة أو الفرادة التي يتميز بها الشاعر عن غيره لخلق البدائل لحالات اليأس والقنوط واستشراف الحلم الذي لابد وأن تشرق به الشمس رغم حالة الريبة بين الشك واليقين التي تنتاب الإنسان على شكل مجموعة من الأسئلة المشروعة التي تولدها اللحظة الراهنة عن لون الحلم مثلا أو العودة إلى مخازن الذكريات وربما شواطئ النسيان .
لكننا نجد في أنفسنا في المقطع الموالي أمام شهرزاد ليبية تفتح لنا خزائن أسرارها حينما تقول :
ذات ليلة
شددت الرحيل نحو القمر
بوابة الشوق ومشجب الأحزان
صافحه قلبي
شهق بعبرته وبكي
وحدثني عن أرق البحر
ترى ..!
ما سر بكاء القمر ..؟
ما لون دموعه …؟
البارحة
قابلني بنصف وجه
بدا كئيبا
همست بابنة الريح
فسرت بأطياف إليه
أمسكت بذقنه ليطالعني
فامتنع
وبكيت .
هذه الرحلة لم تكن بالرحلة التي قد نتصورها حيث ينطلق الركب من نقطة ما ،ليبلغ مراده في مسيرة يقطع خلالها الجبال والو هاد والبرور والبحور رغم أن الشاعرة أم الخير الباروني تبدأ نصها بشد الرحال نحو القمر وهو أمر مازال يحتاج حتى وقتنا الحاضر إلى مراكب فضائية وصواريخ وأقمار صناعية … لكننا نكتشف ومن خلال المقطع الموالي أن القمر لم يكن إلا معنى مجازيا هذه المرة حيث إن بوابات الشوق ومشاجب الأحزان لا تؤدى في العادة إلى القمر المعلق في سماء دنيانا منذ ملايين السنين بل إن القمر هو الذي صافحه قلب الشاعرة ثم شهق بعبرته وبكى كما أنه حدثها عن أرق البحر وهو ما يجعلنا نستدعي المثل الشعبي القائل على لسان العشاق )كان ما يرقد موج البحر ) كناية عن الأرق الطويل لكن حالة الإرباك التي تضعنا فيها الشاعرة بتوجيه سؤالين كان من الأجدر بها أن تجيب هي عنهما والمتعلقين بسر بكاء القمر ولون دموعه وهي الاجدر بالإجابة عنهما لتكتمل حكاية شهرزاد لتلك الليلة .
إلا أنها كشهرزاد حقيقية تستمر حكاياتها عندما تبدأ المقطع الثاني من هذا النص بكلمة (البارحة ) لنستمع إلى بقية الحكاية فالعشاق والمحبين هم أكثر الناس حرصا واستعدادا للقاء الأحبة وهم أحرص على تفرس ملامحهم ، أما أن يقابل الحبيب حبيبته بنصف وجه فالأمر هنا لا يستحق التأكيد من قبل الشاعرة بالقول : كئيباً …
لتسترسل عقب ذلك في سرد بقية الحكاية حتى تنتهي بانهمار دموع الحبيب ربما شوقا أو ربما فرحا لأن الدموع في العادة ليس بالضرورة أن تكون دليلا عن الحزن .
في المقطع الأخير من نص تساؤلات تقول الشاعرة:
هذا المساء
والمطر ثرثارا عجوز
يهمهم في خفوت
يملؤني اشتهاء
لأن نكون معا
وأنت ………..
بعيد ……….
بعيد كالغد
قريب كهمس الذكريات
وأنا لحظة احتضار
قلقة
قطرة . .قطرة .
وهنا لم تسكت الشاعرة عن الكلام المباح ليس لأن الصباح لم يدركها بعد بل أن وتيرة السرد اختلفت حيث بدأ الكلام موجها للحبيب هذه المرة بعد التقاط عدة صورة شعرية رائعة للمطر وهو يثرثر طيلة المساء خلف النوافذ وعلى وجوه الطرق وعلى ضهور الشوارع حيث الحنين والشوق لحالة التوق وخوض مغامرة السير تحت زخات المطر في صورة شعرية غاية في الجمال بلقطات بعيدة للغد وأخرى قريبة بهمس الذكريات بينما تتلبس الشاعرة لحظة الاحتضار القلقة لا الانتظار المتعارف عليه من جنس السائد والمكرر وهي تذوب في الوقت نفسه وجدا كما تذوب قطرات المطر بمجرد ملامستها للأرض قطرة وراء أخرى.
وقبل أن نواصل الحديث عن النص الموالي للشاعرة أم الخير الباروني ينبغي القول بأن الاقتراب من نصوص هذه الشاعرة كان مغامرة جميلة محفوفة بالشجن مفخخة بالمطبات العاطفية الجياشة مطرزة بالصورة الشعرية الأخاذة ،ولابد هنا ومن باب الالتزام الأدبي من الاعتراف بان ما سبق وأن قرأناه لهذه الشاعرة فيما مضى أو حتى ما استمعنا له في العديد من الأمسيات الشعرية التي شاركت فيها لم يكن كافياً بالقدر الذي أعطته لنا هذه الفرصة للاقتراب منها بشكل أفضل حيث تقول في نص ( تحت لحاف الضوء):
تحت لحاف الضوء
نتسامر
وبوح الفجر المتخافت
ينسج من قصص الأحلام
مهدا
احتفاء بطفل
مرتقب .
في لقطة عامة يغمرنا الإحساس بجمال الأشياء –قمر – فجر – وقصص – احتفاء بحدث سعيد وهي تفاصيل نكتشفها تباعا كلما اقتربنا أكثر لاكتمال الصورة باكتمال الحدث تم الحلم الذي كان إطاراً جميلا لهذا المقطع الرائع .
دعونا الآن ننتقل إلى المقطع الذي يليه والذي يقول:
تحت وسائدتي
شاطئ وحلم
تحت عراء الليل
تغمرني
دفق اللحظة المتقدة
فيتأمل الصمت
مترقبا
ستائر الضوء المرتبكة .
في هذا الحوار الممتع بين الشاعرة والمتلقي تنقلنا إلى مرحلة جديدة من السرد الإبداعي بعد أن يدفعنا الفضول المعرفي لاكتشاف ما تحت وسادة الشاعرة في العادة والذي لن يتعدى في الغالب حقنه من الأحلام أو قبساً من أمل يتمثل في امتداد الشواطئ اللامتناهية لكن عراء الليل ودفقة اللحظة المتقدة وانهمار الصمت كان كافيا لانطلاق خيال الشاعرة بدون قيود ولا ضوابط .
في المقطع الأخير من نص (لحاف الضوء) تقول الشاعرة :
تحت ظل الحزن
اتفيأك غيما
تمطر بأعماقي
فتخضب
بكروم …ونخيل
وخمائل غبطة
فيما الظل
يتشخص …يتشخص
يتخلل بصري
وهنا يبلغ النص ذروته حيث ترتفع وتيرة البوح رغم سحابة الحزن الشفافة التي تلف هذا النص بشكل عام ذلك عندما تحاول الشاعرة تأثيثه بما يتلاءم وحالة الفقد التي يعيشها العاشق المتيم الذي ينتظر غائبا ،فالظل يعنى بديلا للهجير والغيم والمطر عوضا عن اليباب والتصحر ،أما الخصب والكروم والنخيل فهي أشياء مرادفة للنمو والحياة وهي طبيعة الأشياء مما يعني الإيمان المطلق بالأمل وإرادة الحياة.
خالد درويش
2 أغسطس 2007
مما قيل عن الدكتورة أم الخير الباروني
الأحد,حزيران 01, 2008
القصيدةُ بلحاف الأنثى
أتسلل خلف الحلم
لأعانق ولعي بك
يدركنا الصحو
أرتبك..
تتوقف القصيدة الحديثة عند مفترقات كثيرة ، لعل أبرزها الوقوف كثيراً على بوابة الذات ، ومحاولة صياغتها بأكثر من صيغة.
ديوان ( لحاف الضوء ) للشاعرة ( أم الخير الباروني )يحتوي على ( 21 قصيدة ) كتبت قصائده عبر فترة امتدت من 1987 إلى 2001 .
ما يعنينا عبر هذه القراءة هو الإجابة على سؤال : كيف تعاملت الشاعرة مع كيان الأنثى عبر قصائدها ؟
القصيدة في ديوان ( لحاف الضوء ) تقع على مقربة من تفاصيل الشاعرة الأنثى ، الشاعرة هنا تصوغ حياتها عبر القصيدة.
تهطلُ بأغواري
بلا غيم
بلا سحب
تهطل!!
فالقصيدة بداية لا تتشكل عبر إطار معين ‘ فهي تمتلئ بالخروقات لكن الشاعرة هنا تعول كثيراً على الفكرة التي تشغل حيزاً مهماً في قولبة القصيدة ، حيثُ خطابُ الذاتِ مسكونٌ بانفعالٍ خاص ، ومخاطبة بصيغة الآخر أو بصيغة الجمع في محاولة من الشاعرة لصهر نفسها مع الآخرين ، وأيضاً القصيدة لا تركن إلى منجز ، فهي تقترح فضاءً جديداً دائماً ، إضافة إلى اهتمامها بالتفاصيل إلى أبعد الحدود ، لذلك تداهمك الصور المنجزة وكأن الحياة تتجدد في كل قصيدة :
تنتصب هياكل ونهارات
كانت منـزوية ما بين ضفتي دفتر
يقلبه طفل حافي القدمين
يحصي الصفحات البيضاء ويفتتها
قوتاً لطيور تنقر أفكاره .
ولا ندعي أن القصيدة لديها حالة استثنائية ، لكنها حالة تسلك طريق الشعر الحديث عامة ، تحمل قلقها وإحساسها المختلفة بالحياة ، ترتكب محاولة بحث المحمومة للخروج بحالة تميز ، لكنها تظل محتفظة بمخاوفها ساطعة متوهجة وطازجة :
أتفيأك غيماً . . تمطر بأعماقي
فتخصب بكروٍٍٍمٍ ونخيل وخمائل غبطة
فيما الظل يشخص .. يتشخص
يتخلل بصري .
لا تمضي بعيداً في أفكارها ، تميز القصيدة في وضوح فكرتها إنها لا تخاتل القارئ كثيراً .. إنها تسلك أقصر طريق للوصول ، لنقرأ هذا المقطع الذي يفيض بدهشته الصغيرة المستحدثة :
تحت وسادتي
حلم وشاطئ !!
القصيدة التي تكتبها الشاعرات في ليبيا تنضح بكثير من ردود الفعل الصغيرة المشاكسة ، لذلك تتميز هذه القصائد بتفجرها الجميل ، تحمل وقع اليوم في كثير من الدهشة ، ولا تحمل الكثير من المفارقات اللغوية ، بعكس القصيدة التي يكتبها الشعراء .. إنها تميل للتعقيد كثيراً ، وتدخل من باب فكري عميق ، لذلك نراها تحسن التعبير عن نفسها جيداً ، وتتمترسُ بالذات كثيراً :
البارحة
بعدما غادرتني
وعلي غير عادتي
لم أقرب الماء .. لم أشرب
خفت . . خفت أن .. أنطفئ !!
الفكرة الواضحة تمنح القصيدة قوة الإيجاز ..لذلك تتجلى القصيدة قدر الإمكان في الاقتصاد اللفظي ..حيث الفكرة تشعل النص بمقدار مناسب من الوقع الجميل ، الذات أيضاً عند [ أم الخير الباروني ] تنكشف بلطف .. وتتسرب من خلال لحظة البوح هذه هموم الشاعرة بشفافية حادة .. ومصحوبة بكمٍ هائل من الصور التي تراها الشاعرة تخدمُ القصيدة مترافقة مع جرأة محببة لا تختفي تحت قناع:
هذا المساء
والمطرُ ثرثارٌ عجوز
يهمهم في خفوت
يملؤني اشتهاءً لأن نكون معاً
وأنت بعيد
بعيدٌ كالغد
قريبٌ كهمس الذكريات.
نتوقف هنا لنرى كيف تعاملت الشاعرة مع قصيدتها ، ونرى أنها تعاملت في خطين متوازيين :
الخط الأول : ويمكن تسميته ( خط التداعي ) وتعول الشاعرة هنا على جملة سردية تقتضب فيها كثيراً.
الخط الثاني : ويمكن تسميته ( خط الصور ) وتتوقف الشاعرة عند مجموعة من الصور التي تدعم الخط الأول ، ونلاحظ هنا اهتمام بصياغة مفارقة مدهشة بين من خلال إنجاز الصور ، الأمر الذي يعطي القصيدة قدرة على المشاكسة.
النوم يفرك نعاسه ويغلقُ نوافذه
السعة
تتدثر بلحافها وتضيق
الليل
يبكي معزوفة المطر
فامضي
امتطي وهج الصبح
واركض
فيسقط الغد من شرفة ذاكرتي
حقلاً من رماد ..
القصيدة أيضاً في إطارها الحديث قصيدة قلق متعاظم ، وتتوقف الشاعرة كثيراً عند هذه النقطة ، ربما هو جزء من إحساسها الخاص بقلق كبير عصري يراه الشعراء كل من زاويته :
هدهدة طحن العمر الماضي
تلجم خيول الزمن الآتي
وأنا متعبة
أنيني متحجر
عند بوابات صدئة
لمدائن الفرح
تصدني فأدير وجهي
واركض ..
قصيدة [ أم الخير الباروني ] ترسم في الغالب حدودها ومحيطها كأنثى ، وهي أيضاً قصيدة هادئة .. هامسة تختبئ وراء ذات غير منجزة .. تراها الشاعرة كل مرةٍ بشكل مغاير !!
عن مدونة سريب - أحمد الفيتوري

كتاب د. عبدالله مليطان
معجم الكاتبات والأديبات الليبيات
من برنامج شاعرات من بلادي
برنامج شاعرات من بلادي هو ا حد البرامج التي تداع في إذاعتنا الحبيبة ولعل هذه الصور توضح لكم إحدى الحلقات التي اجريت مع الدكتورة / ام الخير الباروني .
هذا البرنامج هو من إخراج / المخرج * سعد جمعة * إعداد / فاطمة الهمالي * تصوير / خالد حسين * سعد جمعة * توليف / رمضان الدبار * تقديم / فاطمة مخلوف * إضاءة / صلاح الهجني




من كلمات الراحل الاستاذ الشاعر لطفي عبداللطيف
رحمه الله
لا أستطيع أن أخفي عمن أتوسم فيهم روحاً شاعرية هذا الاكتشاف. لذلك أنا مع أم الخير وحليمة العايب أتناسى التشدد لانني مدرك إلى حد بعيد أنهما صادقتان إلى أبعد غور. ونبؤتي لهما بنص متميز قادم ستفرحان بصدقها ذات يوم.
<0 |